كتاب: تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها، واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا، إذا حق الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم، وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة. وهذا يظهر كثيرا في الدنيا، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على اللّه، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ، وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حققت الحقائق. وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغروين، فيا له هناك من علم لا ينفع عالمه، ويقين لا ينجى مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولمن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه. فحاله أيضا كحال هذا، وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
1- عبودية اللّه لا غيره.
2- بأمره وشرعه.
3- لا بالهوى.
4- ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم.
5- بالاستعانة على عبوديته به.
6- لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو إثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولا بد: وهما الرياء، والكبر، فدواء الرياء ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ودواء الكبر ب إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس اللّه روحه- يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبر والعجب ب {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل ب {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين. وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى، كما سنبينه. فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت اللّه وكلامه، وفهمت عنه فهما خاصا، اختصها به، من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء اللّه تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.
ثم ذكر فصلين في الرقية بالفاتحة وتأثيرها مستشهدا بحديث أبي سعيد وببعض تحليلات نفسية، وبتجاربه. ثم قال:
فصل في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين عن أهل الملل والنحل، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة:
وهذا يعلم بطريقين، مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته والانقياد له، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق: هو ما كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان، التي هي منازل السائرين إلى اللّه تعالى.
وكل ذلك مسلم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم، فكل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، وعليه السكة المحمدية، بحيث يكون من ضرب المدينة، فهو من الصراط المستقيم، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثمّ خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به، وطريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده، وطريق أهل الضلال، وهي طريق من أضله اللّه عنه. ولهذا قال عبد اللّه بن عباس وجابر ابن عبد اللّه رضي اللّه عنهم: {الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}: هو الإسلام وقال عبد اللّه بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما: (هو القرآن) وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد اللّه: طريق السنة والجماعة.
وقال بكر بن عبد اللّه المزني: طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولا ريب أنه ما كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره. فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
بهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل، وهو من صراط الأمتين: الأمة الغضبية، وأمة أهل الضلال.
فصل:
وأما المفصل: فمعرفة المذاهب الباطلة، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها. فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى، وجاحد له، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق على المخلوق، والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزاكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة: أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون باللّه على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن. وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [14: 10] أي أيشك في اللّه حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم: {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس اللّه روحه- يقول:كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شي ء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى الدليل ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد: القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود اللّه، وهو حقيقة وجود هذا العالم، فليس عند القوم رب وعبد، ولا مالك ومملوك، ولا راحم ومرحوم، ولا عابد ومعبود، ولا مستعين ومستعان به، ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه، ولا غضبان ومغضوب عليه، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته، والمالك هو عين المملوك، والراحم هو عين المرحوم، والعابد هو نفس المعبود. وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها. فتظهر تارة في صورة معبود، كما ظهرت في صورة فرعون، وفي صورة عبد، كما ظهرت في صورة العبيد، وفي صورة هاد، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء، والكل من عين واحد، بل هو العين الواحدة، فحقيقة العابد ووجوده، أو إنّيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم..
فصل:
والمقرّون بالرب سبحانه وتعالى: أنه صانع العالم نوعان:
نوع ينفي مباينته لخلقه، ويقولون: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا فيه ولا بائن عنه.
فتضمنت الفاتحة للرد على هؤلاء من وجهين:
أحدهما: إثبات ربوبيته تعالى للعالم. فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات، كما باينهم بالربوبية، وبالصفات والأفعال، فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم، فما أثبت ربا، فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين، لزوما لا انفكاك له عنه البتة: إما أن يكون هو نفس هذا العالم، وحينئذ يصح قوله. فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه، ومن هاهنا دخل أهل الوحدة، وكانوا معطلة أولا، واتحادية ثانيا.
وإما أن يقول: ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا، ولا داخلا ولا خارجا، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع.
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين: إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم، وإثبات خالق قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارج العالم، ولا فوق العالم ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا يمنته ولا يسرته: فقول له خبئ، والعقول لا تتصوره حتى تصدق به. فإذا استحال في العقل تصوره. فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر. وهو منطبق على العدم المحض، والنفي الصّرف، وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين، فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها، التي لم تحل في العالم، ولا حلّ العالم فيها، ثم انظر أي المعلومين أولى به، واستيقظ لنفسك، وقم للّه قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر، متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية، صادقا في طلب الهداية من اللّه، فاللّه أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه. وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه، مباين لخلقه، بل هذا نفس ترجمتها.
فصل:
ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان:
أهل توحيد، وأهل إشراك. وأهل الإشراك نوعان:
أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية، فإنهم يثبتون مع اللّه خالقا آخر، وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له، والقدرية المجوسية تثبت مع اللّه خالقين للأفعال، ليست أفعالهم مقدورة للّه، ولا مخلوقة لهم، وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها، ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها، بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين.
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان، ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه، إذ هو المعين عليها والموفق لها، وهو الذي شاءها منهم، كما قال في غير موضع من كتابه: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} فهو محمود على أن شاءها لهم، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته، فهو المحمود عليها في الحقيقة. وعندهم: أنهم هم المحمودون عليها، ولهم الحمد على فعلها، وليس للّه حمد على نفس فاعليتها عندهم، ولا على ثوابه وجزائه عليها.
أما الأول: فلأن فاعليتها بهم لا به، وأما الثاني: فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر، فهو محض حقهم، الذي عاوضوه عليه.
وفي قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رد ظاهر عليهم. إذا استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته، فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده، إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده، بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته.
وفي قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} أيضا رد عليهم فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الاهتداء. ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها، وهي المتضمنة للإرشاد والبيان، والتوفيق والإقدار، وجعلهم مهتدين. وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة، كما ظنته القدرية.
لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى، ولا ينجي من الردى، وهو حاصل لغيرهم من الكفار، الذين استحبوا العمى على الهدى، واشتروا الضلالة بالهدى.
فصل:
النوع الثاني: أهل الإشراك به في إلهيته، وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين اتخذوا من دون اللّه أندادا، فهؤلاء لم يوفوا {إياك نعبد} حقه، وإن كان لهم نصيب من {نعبدك}. لكن ليس لهم نصيب من {إياك نعبد} المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما، ف {إياك نعبد} تحقيق لتوحيد لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن {إياك نستعين} تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به فيها، وكذلك قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين وأهل الإشراك: هم أهل الغضب والضلال.